الأربعاء، 10 أبريل 2019

حقوق الرعية على الراعي - الرئيس-

قال الإمام أبويعلى الحنبلي رحمه الله تعالى في الأحكام السلطانية:

ويلزم الإمام من أمور الأمّة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه، بيّن له الحجة، وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من الخلل، والامة ممنوعة من الزلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولايضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحوزة، ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.

الرابع: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الإنتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك، [ونصب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأخذ على يد المفسدين، وقطع دابر المجرمين

الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لاتظفر الأعداء بغرة، ينهكون بها محرما، ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد.

السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة، حتى يسلم أو يدخل في الذمة.

السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف.

الثامن: تقدير العطاء، وما يستحق في بيت المال من غير سرف، ولاتقصير فيه، ودفعه في وقت لاتقديم فيه ولا تأخير.

التاسع: إستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال مضبوطة، والأموال محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولايعول على تفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال تعالى: {يا داوود إنّا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين النّاس بالحقّ ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللّه إنّ الّذين يضلّون عن سبيل اللّه لهم عذابٌ شديدٌ بما نسوا يوم الحساب}، فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ "كلكم راع وكلكم مسوؤل عن رعيته". [أنظر: الأحكام السلطانية " للفراء: ص 11، و" الأحكام السلطانية " للماوردي: ص 15.]

أيها الرؤساء أحفظوا الشعوب بالعدل

العدل بين الرعية من الحقوق الواجبة على الولاة.
وفيه مباحث:
المبحث الأول: تعريف العدل.
المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب العدل.
المبحث الثالث: مكانة العدل ومنفعته للراعي والرعية
المبحث الرابع: أقسام العدل وكيفية تحقيقه.

أولاً: تعريف العدل لغة واصطلاحاً.
الْعَدْل: خِلاَفُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأْمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الأْمْرِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإْفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْعَدْل مِنَ النَّاسِ: هُوَ الْمَرْضِيُّ. قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ، وَرَجُلٌ عَدْلٌ: بَيِّنُ الْعَدْل، وَالْعَدَالَةُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَاهُ: ذُو عَدْلٍ.
العدل: هو فصل الحكومة على ما في كتاب اللّه – سبحانه وتعالى - وسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لا الحكم بالرّأي المجرّد.
وقيل: بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقّين في حقوقهم.
وقال ابن حزم: هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه.
وقال الجرجانيّ: العدل الأمر المتوسّط بين الإفراط والتّفريط.
والعدالة في الشّريعة: عبارة عن الاستقامة على طريق الحقّ بالاجتناب ممّا هو محظور دينا. [التعريفات(153)]

ثانياً: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب العدل.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وقال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. [المائد:42].
- عن أنس بن مالك -رضي اللّه عنه -قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا، فإنّ اللّه-عزّ وجلّ-محسن يحبّ المحسنين». [صحيح الجامع (1/ 194)]
- وعن أبي سعيد الخدريّ -رضي اللّه عنه-قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ أحبّ النّاس إلى اللّه يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل، وأبغض النّاس إلى اللّه، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر». [الترمذي (1329)]
- وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْلُغُ بِهِ النبي -صلى الله عليه وسلم-وَفِى حَدِيثِ زُهَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ». [مسلم(4698)]
-قال النووي - رحمه الله تعالى -:
قوله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. أما قوله ولوا فبفتح الواو وضم اللام المخففة أي كانت لهم عليه ولاية والمقسطون هم العادلون وقد فسره في آخر الحديث والأقساط والقسط بكسر القاف العدل يقال أقسط أقساطا فهو مقسط إذا عدل قال الله تعالى وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ويقال قسط يقسط بفتح الياء وكسر السين قسوطا وقسطا بفتح القاف فهو قاسط وهم قاسطون إذا جاروا قال الله تعالى وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأما المنابر فجمع منبر سمي به لارتفاعه قال القاضي يحتمل أن يكونوا على منابر حقيقة على ظاهر الحديث ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة قلت الظاهر الأول ويكون متضمنا للمنازل الرفيعة فهم على منابر حقيقة ومنازلهم رفيعة أما قوله صلى الله عليه و سلم عن يمين الرحمن فهو من أحاديث الصفات.[شرح مسلم(6/416)].
-وقال رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه و سلم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا فمعناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك والله أعلم. .[شرح مسلم(6/416)]..

عليك بالعدل إن وليت مملكةً… واحذر من الجور فيها غاية الحذر.
فالملك يبقى على عدل الكفور ولا… يبقى مع الجور في بدو ولا حضر.
- وعن عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه - قال: من عرض له قضاء فليقض بما في كتاب اللّه، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللّه- عزّ وجلّ- فليقض بما قضى به النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللّه- عزّ وجلّ- ولم يقض به نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم فليقض بما قاله الصّالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللّه ولم يقض به نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يقض به الصّالحون، فليجتهد رأيه، فإن لم يحسن فليقرّ، ولا يستحي.[ النسائي (8/ 230) وقال الألباني فى صحيحه: صحيح الإسناد موقوف (3/ 1092- 1093)]

المبحث الثالث: مكانة العدل ومنفعته للراعي والرعية.
فَإِن من وصف الرياسة الْعدْل فِي السياسة، لتعمر الْبِلَاد ويأمن الْعباد، ويصخ الْفساد، وتجري الْأُمُور على وفْق السداد، وتنتعش الرّعية، وتقوى على أَدَاء الْفَرَائِض الشَّرْعِيَّة، وَتلك رَحْمَة من الله أودعها قُلُوب الْوُلَاة والملوك، لينصفوا بَين الْمَالِك والمملوك والغني والصعلوك.[الجوهر النفيس في سياسة الرئيس(ص118)]
وَالله مَا حلي الإِمَام بحليةٍ ... أبهى من الْإِحْسَان والإنصاف.
فلسوف يلقى فِي الْقِيَامَة فعله ... مَا كَانَ من كدرٍ أَتَاهُ وصافي.
وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: " بالراعي تصلح الرّعية، وبالعدل تملك الْبَريَّة وَمن عدل فِي سُلْطَانه اسْتغنى عَن أعوانه، وَالظُّلم مسْلبَةٌ النعم، ومجلبة النقم، وَأقرب الْأَشْيَاء سرعَة الظلوم وأنفذ السِّهَام دَعْوَة الْمَظْلُوم، وَمن سل سيف الْعدوان سلب من السُّلْطَان ".
قَالَ الفضيل بن عِيَاض رَحمَه الله: " إِن الله تَعَالَى لَا يهْلك الرّعية، وَإِن كَانَت ظالمة إِذا كَانَت الْأَئِمَّة هادية مهديةٌ: وَيهْلك الرّعية وَإِن كَانَت هادية مهدية إِذا كَانَت الْأَئِمَّة ظالمة، لِأَن أَعمال الْأَئِمَّة تعلو أَعمال الرّعية ".[المصدر السابق(
ص123-125)]
قال الذهبي رحمه الله:
قَالَ مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللهِ الوَزِيْرُ، سَمِعَ المَنْصُوْرَ يَقُوْلُ:
الخَلِيْفَةُ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ التَّقْوَى، وَالسُّلْطَانُ لاَ يُصْلِحُه إِلاَّ الطَّاعَةُ، وَالرَّعِيَّةُ لاَ يُصلِحُهَا إِلاَّ العَدْلُ، وَأَولَى النَّاسِ بِالعَفْوِ أَقْدَرُهُم عَلَى العُقُوْبَةِ، وَأَنْقَصُ النَّاسِ عَقلاً مَنْ ظَلَمَ مَنْ هُوَ دُوْنَهُ.[السير(7/87)]

وليس لله في الأرض سلطان إلا وقد أخذ عليه شرائط العدل، ومواثيق الإنصاف وشرائع الإحسان، وكما أنه ليس فوق رتبة السلطان العادل رتبة كما أن خيره يعم، كذلك ليس دون رتبة السلطان الشرير الجائر رتبة لشرير لأن شره يعم. وكما أن بالسلطان العادل تصلح البلاد والعباد، وتنال الزلفى إلى الله تعالى والفوز بجنة المأوى.
كذلك بالسلطان الجائر تفسد البلاد والعباد وتقترف المعاصي والآثام وتورث دار البوار، وذلك أن السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته وأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطوا الحق فيما بينهم، ولزموا قوانين العدل فمات الباطل وذهبت رسوم الجور، وانتعشت قوانين الحق فأرسلت السماء غياثها، وأخرجت الأرض بركاتها، ونمت تجارتهم وزكت زروعهم وتناسلت أنعامهم، ودرت أرزاقهم ورخصت أسعارهم وامتلأت أوعيتهم، فواسى البخيل وأفضل الكريم، وقضيت الحقوق وأعيرت المواعين، وتهادوا فضول الأطعمة والتحف فهان الحطام لكثرته وذل بعد عزته، وتماسكت على الناس مروآتهم وانحفظت عليهم أديانهم. وبهذا تبين لك أن الوالي مأجور على ما يتعاطاه من إقامة العدل، ومأجور على ما يتعاطاه الناس بسببه.
وإذا جار السلطان انتشر الجور في البلاد وعم العباد، فرقت أديانهم واضمحلت مروآتهم وفشت فيهم المعاصي وذهبت أماناتهم، وتضعضعت النفوس وقنطت القلوب، فمنعوا الحقوق وتعاطوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان وجوزوا البهرج، فرفعت منهم البركة وأمسكت السماء غياثها، ولم تخرج الأرض زرعها أو نباتها، وقل في أيديهم الحطام وقنطوا وأمسكوا الفضل الموجود، وتناجزوا على المفقود، فمنعوا الزكوات المفروضة وبخلوا بالمواساة المسنونة، وقبضوا أيديهم عن المكارم وتنازعوا المقدار اللطيف وتجاحدوا القدر الخسيس، ففشت فيهم الأيمان الكاذبة والحيل والبيع والخداع في المعاملة، والمكر والحيلة في القضاء والاقتضاء، ولا يمنعهم من السرقة إلا العار ومن الزنا إلا الحياء، فيظل أحدهم عارياً عن محاسن دينه متجرداً عن جلباب مروءته، وأكثر همته قوت دنياه وأعظم مسراته أكله من هذا الحطام، ومن عاش كذلك فبطن الأرض خير له من ظهرها.
قال وهب بن منبه رضي الله عنه:
إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته في الأسواق والزرع والضرع وكل شيء، وإذا هم بالخير والعدل أو عمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك. وقال عمر بن عبد العزيز: تهلك العامة بعمل الخاصة، ولا تهلك الخاصة بعمل العامة، والخاصة هم الولاة. وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
قال الوليد بن هشام:
إن الرعية لتفسد بفساد الوالي وتصلح بصلاحه. وقال سفيان الثوري لأبي جعفر المنصور: إني لأعلم رجلاً إن صلح صلحت الأمة وإن فسد فسدت الأمة، قال: ومن هو؟ قال: أنت! وقال ابن عباس: إن ملكاً من الملوك خرج يسير في مملكته مستخفياً بمكانه، فنزل على رجل له بقرة فراحت البقرة فحلبت له قدر حلاب ثلاثين بقرة، فتعجب الملك لذلك وحدثته نفسه بأخذها، فلما راحت عليه من الغد حلبت على النصف مما حلبت بالأمس، فقال له الملك: ما بال حلابها نقص، أرعت في غير مرعاها بالأمس؟ قال: لا، ولكني أظن أن ملكنا هم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بالظلم ذهبت البركة. فعاهد الملك الله سبحانه وتعالى في نفسه أن لا يأخذها، فراحت من الغد فحلبت حلاب ثلاثين بقرة، فتاب الملك وعاهد ربه: لأعدلن ما بقيت! ومن المشهور في أرض المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو، وأن قصبة منها تعصر قدحاً، فعزم على أخذها منها، ثم أتاها وسألها عن ذلك فقالت: نعم! ثم إنها عصرت قصبة فلم تبلغ نصف قدح، فقال لها: أين الذي كان يقال؟ فقالت: هو الذي بلغك إلا أن يكون السلطان قد عزم على أخذها مني فارتفعت بركتها. فتاب السلطان وأخلص نيته لله أن لا يأخذها أبداً، ثم أمرها فعصرت ملء القدح.
وحدثني بعض الشيوخ ممن كان يروي الأخبار بمصر قال: كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرداب تمراً لم يكن في الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان فلم تحمل في ذلك العام شيئاً ولا ثمرة واحدة. قال شيخنا رحمه الله: قال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الناحية الغربية يجنى منها عشرة أرداب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيعها في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وقال الشيخ رضي الله عنه: وشهدت أنا بالإسكندرية والصيد في الخليج مطلق للرعية والسمك فيه يغلي كثرة يصيده الأطفال بالخرق، ثم حجره الوالي ومنع الناس من صيده فذهب السمك حتى لا يكاد يرى فيه إلا الواحدة إلى يومنا هذا. وهكذا بتعدي سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم في الرعية، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وروى أصحاب التواريخ في كتبهم قالوا: كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجاج وتلاقوا يتساءلون: من قتل البارحة ومن صلب ومن جلد ومن قطع؟ وأمثال ذلك. وكان الوليد صاحب ضياع واتخاذ مصانع، فكان الناس يتساءلون في زمانه عن البنيان والمصانع والضياع وشق الأنهار وغرس الأشجار. ولما ولي سليمان بن عبد الملك، وكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتحدثون ي الأطعمة الرفيعة ويتوسعون في الأنكحة والسراري، ويغمرون مجالسهم بذكر ذلك. ولما ولي عمر بن عبد العزيز كان الناس يتساءلون: كم تحفظ من القرآن وكم وردك في كل ليلة، وكم يحفظ فلان ومتى يختم وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك. [سراج الملوك (45-46)]
فالْعَدْل مِيزَانُ اللَّهِ فِي الأْرْضِ، وَهُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلاَحِ الْخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأْرْضُ. قَال تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَوَرَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَلِهَذَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ إِذَا شَمِلَهَا الْعَدْل كَانَتْ مِنْ أَفْضَل الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ الْعَادِل مِنَ الأَئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ جَمِيعِ الأَْنَامِ .
قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ : وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَدَرْءِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَظْلِمَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ يَجْلِبُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ مَصْلَحَةٍ فَمَا دُونَهَا، فَيَا لَهُ مِنْ كَلاَمٍ يَسِيرٍ وَأَجْرٍ كَبِيرٍ .
أَمَّا وُلاَةُ الْجَوْرِ وَقُضَاةُ السُّوءِ فَأَعْظَمُ النَّاسِ وِزْرًا، وَأَحَطُّهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِعُمُومِ مَا يَجْرِي عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُول الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَأْثَمُ بِهَا أَلْفَ إِثْمٍ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ خَاسِرَةٍ وَتِجَارَةٍ بَايِرَةٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ جِمَاعَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلاَيَةِ الصَّالِحَةِ : أَدَاءُ الأَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْل .وَحَكَى : إِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلاَ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً. [الموسوعة الكويتية(45/146)]
كلام قيَّم لابن قيم الجوزية في هذا المضمار:
يقول ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
(إن الله -سبحانه- أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ... إلخ[الطرق الحكمية(ص14)]
فالعدل في الإِسلام من صميم التطبيق لأحكام الشريعة وليس مبدأً مستقلًا عنها لأن مصدره الوحي الإلهي من قرآن أو سنة نبوية أو اجتهاد المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام من المصدرين السابقين بالقياس، بخلاف القانون الوضعي الذي يعتبر فكرة العدالة مصدرًا مستقلًّا خارجًا عنه يلجأ إليه القاضي أخيرًا ليستوحي القاعدة القانونية، ثم إن الشريعة مقاصدها تتصف بقوة الإِلزام الذي تستمده من الشارع الحكيم بخلاف القانون الوضعي الذي يستمد مقاصده من سمو المبادئ التي تحتوي عليها والتي تختلف بحسب الزمان والمكان)
هذا (وإذا كان العدل من السمات الأخلاقية المتميزة للدولة الإِسلامية وشريعتها فإنه لا يقتصر على أفراد الدولة فقط -أعني المسلمين فحسب- بل إن عدالة الإِسلام للإنسان (بإطلاقِ) أيًّا كان أصله العِرْقِي أو اللغوي أو طبقته أو عقيدته دون تمييز أو محاباة أو تحامل أو استعلاء، وليس أدل على ذلك مما وعاه التاريخ وبقي صورة وضيئة للعدل عبر القرون من ذلك مثلًا: وقفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجانب خصمه النصراني والذي سرق درعه، أمام شريح الذي لم يمنعه إكباره وإجلاله لأمير المؤمنين أن يطلب منه البينة على سرقة النصراني درعه، ولما لم يجد أمير المؤمنين البينة حكم القاضي للنصراني على أمير المؤمنين ... إلخ)
والتاريخ الإِسلامي حافل بأمثال هذه الأخبار الدالة على سيادة الحق والعدل في المجتمع الإِسلامي وحرية القضاء واستقلاله في المحكمة الإِسلامية ورسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري في القضاء التي حددت معالم الحق والعدل في الخصومات، لا تزال كنزًا من كنوز دساتير القضاء حتى اليوم ... يقول عمر - رضي الله عنه -: (... آس بين الناس في خلقك وعدلك، ووجهك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ... إلخ).[ وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل عصر(ص 161)]
والعدل وهو الّذي تستغزر به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرّجال: ولما فتح السّلطان «هولاكو» بغداد في سنة ستّ وخمسين وستّمائة، أمر أن يستفتي العلماء، أيّهما أفضل، السلطان الكافر العادل، أم السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع العلماء بالمستنصريّة لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضيّ الدين عليّ بن طاووس حاضرا هذا المجلس، وكان مقدّما، فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر فوضع الناس خطوطهم بعده.[السياسة الشرعية لطقطقي(23)]
ولما استأذن الهرمزان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يجد عنده حاجباً ولا بواباً فقيل له: هو في المسجد، فأتى المسجد فوجده مستلقياً متوسداً كوماً من الحصى ودرته بين يديه، فقال له الهرمزان: يا عمر عدلت فأمنت فنمت! وقال الحسن بن علي: رأيت عثمان رضي الله عنه وقد جمع الحصى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه، وقد وضع إحدى جانبي ردائه عليه وهو يومئذ أمير المؤمنين، ما عنده أحد من الناس ودرته بين يديه.
وكتب عامل حمص إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح فكتب إليه عمر: حصنها بالعدل ونق طرقها من الجور، والسلام. وقالت الحكماء: من حرم العدل فلا خير له ولا للناس في سلطانه. وقال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستان والشمس على يساري والمأمون في الظل، فلما رجعنا وقعت الشمس أيضاً علي، فقال لي المأمون: تحول مكاني وأنا أتحول مكانك حتى تكون في الظل كما كنت، وأقيك الشمس كما وقيتني، فإن أول العدل أن يعدل الرجل على بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ العدل الطبقة السفلى. فعزم علي فتحولت. [سراج الملوك(53)]
قيل: لا يكون العمران إلا حيث يعدل السلطان.
قيل: العدل حصن وثيق في رأس نيق، لا يحطمه سيل، ولا يهدمه منجنيق.
وقع المأمون إلى عامل: أنصف من ولّيت أمره، وإلا أنصفه من ولي أمرك، وعنه: أكفه أمره وإلا كفيته أمرك.
وقال بعض السلف: العدل ميزان الله، والجور مكيال الشيطان.
الملك العادل مكنوف بعون الله، محروس بعين الله.
قال أرد شير: إذا رغب الملك عن العدل، رغبت الرعية عن الطاعة.
وعنه: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل وحسن سياسة. [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار(3/393)]

المبحث الرابع: أقسام العدل وكيفية تحقيقها:
-قال الماورديّ رحمه الله:
إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان.
وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل.
ونقل عن بعض البلغاء قوله: إنّ العدل ميزان اللّه الّذي وضعه للخلق، ونصبه للحقّ فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلّتين: قلّة الطّمع، وكثرة الورع. فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدّنيا الّتي لا انتظام لها إلّا به، ولا صلاح فيها إلّا معه، وجب أن يبدأ بعدل الإنسان في نفسه، ثمّ بعدله في غيره. فأمّا عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح وكفّها عن القبائح، ثمّ بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين: من تجاوز أو تقصير، فإنّ التّجاوز فيها جور، والتّقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
فأمّا عدله مع غيره، فقد تنقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسّلطان في رعيّته، والرّئيس مع صحابته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء:
باتّباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التّسلّط بالقوّة، وابتغاء الحقّ في السّيرة، فإنّ اتّباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التّسلّط أعطف على المحبّة، وابتغاء الحقّ أبعث على النّصرة.
القسم الثّاني: عدل الإنسان مع من فوقه.
كالرّعيّة مع سلطانها، والصّحابة مع رئيسها، ويكون ذلك بثلاثة أشياء:
بإخلاص الطّاعة، وبذل النّصرة، وصدق الولاء؛ فإنّ إخلاص الطّاعة أجمع للشّمل، وبذل النّصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظّنّ.
وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء تسلّط عليه من كان يدفع عنه واضطرّ إلى اتّقاء من كان يقيه ... وفي استمرار هذا حلّ نظام شامل، وفساد صلاح شامل.
القسم الثّالث: عدل الإنسان مع أكفائه، ويكون بثلاثة أشياء: بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكفّ الأذى؛ لأنّ ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكفّ الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا.
وقد يتعلّق بهذه الطّبقات أمور خاصّة يكون العدل فيها بالتّوسّط في حالتي التّقصير والسّرف، لأنّ العدل مأخوذ من الاعتدال، فما جاوز الاعتدال فهو خروج عن العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ كلّ ما خرج عن الأولى إلى ما ليس بأولى خروج عن العدل إلى ما ليس بالعدل.
ولست تجد فسادا إلّا وسبب نتيجته الخروج فيه عن حال العدل، إلى ما ليس بعدل من حالتي الزّيادة والنّقصان، وإذا لا شيء أنفع من العدل كما أنّه لا شيء أضرّ ممّا ليس بعدل. [أدب الدنيا والدين للماوردي (141- 144) بتصرف].
-وكتب بعض عمّال عمر بن عبد العزيز إليه: أمّا بعد، فإنّ مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالا يرمّها به فعل.
فكتب إليه عمر، «أمّا بعد، فقد فهمت كتابك وما ذكرت أنّ مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظّلم، فإنّه مرمّتها والسّلام»
قال ابن تيميّة- رحمه اللّه تعالى-:
«إنّ النّاس لم يتنازعوا في أنّ عاقبة الظّلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: اللّه ينصر الدّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدّولة الظّالمة، ولو كانت مؤمنة» [الحسبة (ص16،17)]
وقال أيضا:
«أخبر اللّه في كتابه أنّه أنزل الكتاب والحديد ليقوم النّاس بالقسط، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ولهذا أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين النّاس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور من طاعة اللّه تعالى»). [الحسبة (ص19)]
وقال أيضا:
«بالصّدق في كلّ الأخبار، والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأعمال، وهما قرينان كما قال اللّه تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا}. [الحسبة (22)]
وقال: فأيّ (يعني فكلّ) من عدل في ولاية من الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع اللّه ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصّالحين. [الحسبة(ص25)]
-قال العلامة العثيمين - رحمه الله تعالى -:
العدل من الوالي ألا يفرق بين الناس لا يجور على أحد ولا يحابي غنيا لغناه ولا قريبا لقرابته ولا فقيرا لفقره ولكن يحكم بالعدل حتى إن العلماء رحمهم الله قالوا يجب على القاضي أن يستعمل العدل مع الخصمين ولو كان أحدهما كافرا يعني لو دخل كافر ومسلم على القاضي فإن الواجب أن يعدل بينهم في الجلوس والمكالمة والملاحظة بالعين وغير ذلك لأن المقام مقام حكم يجب فيه العدل وإن كان بعض الجهال يقول لا، قدم المسلم نقول لا يجوز أن نقدم المسلم لأن المقام مقام محاكمة ومعادلة فلابد من العدل في كل شيء ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله سبعة يظلهم الله وليس هذا على سبيل الحصر هناك أناس آخرون يظلهم الله غير هؤلاء وقد جمعهم الحافظ بن حجر في شرح البخاري فزادوا على العشرين .[شرح الرياض(1/705)]
وقالت الحكماء: أسرع الخصال في هدم السلطان وأعظمها في إفساده وتفريق الجمع عنه إظهار المحاباة لقوم دون قوم، والميل إلى قبيلة دون قبيلة، فمتى أعلن بحب قبيلة فقد برئ من قبائل. وقديماً قيل: المحاباة مفسدة. وقال مهبوز الموبذان: من زوال السلطان تقريب من ينبغي أن يباعد، ومباعدة من ينبغي أن يقرب وحينئذ حان أوان الغدر. [سراج الملوك(55)]

فائدة: التطبيق العملي لمبدأ المساواة الإِنسانية وفائدته.
كان أول تطبيق عملي لحقيقة هذه الآية الكريمة في {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} الوجود الِإنساني هو ما صنعه في الإِسلام محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الأنموذج الِإنساني الأعلى في حجة الوداع: يا أيها الناس: أَلاَ إن ربكم واحد. وإن أباكم واحد. أَلاَ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلَّا بالتقوى، أَبَلَّغْتْ؟ قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وجعل - صلى الله عليه وسلم - نفسه الكريمة وأقرب الناس إليه مثلًا أعلى لتطبيق دعامة المساواة الإِنسانية تطبيقاً عملياً، ليبين عن معقد الفضل بالعمل الصالح، ليتنافس فيه المتنافسون؟ (فقد زوج مولاه زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش ثم تزوجها - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلقها زيد، ليكون ذلك أساسًا لتشريع المساواة في أعلى ذروتها وأفضل صورها، وليقتلع به جذور الجاهلية من أصلها.
وذلك ليذهب الفوارق الطارئة على حقيقة الإِنسانية ولم يُبْقِ إلَّا على ميزة العمل الصالح يقوم به المسلم فيسدي إلى مجتمعه الذي يعيش فيه خيرًا وبراً وإصلاحا. جاعلًا هذه الميزة هي مناط التفاضل والكفاءة نحو الأنساب والمصاهرة.
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن العربية والفارسية بحكم إيحاءات القوم الضيقة ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: "سلمان منا أهل البيت".
فتجاوز - صلى الله عليه وسلم -: كل آفاق النسب الذي يعتزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها وجعله من أهل البيت رأسًا.
وقد سار المسلمون على سيرة نبيهم، فعاشروا غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى بصفاء ووئام، والدين أقوى حاكم على شعورهم، فلم يشاهد منهم ما يعابون عليه، ولم يفرقوا في مكارم الأخلاق وحقوق الإجتماع بين مسلم وغير مسلم ولم يمنعوا غير المسلم أن يقاضي أرفع رأس في المسلمين، وينتصف منه.
وكانت غسَّان قبيلةً عربية عميلة للروم، حيث كانت متاخمة لحدودها، وكان جَبَلة بن الأيهم آخرَ ملوك هذه القبيلة، أسلم جبلة في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد أراد أن يلتحقَ بالعرب أبناء قومه، فبعث عمر بن الخطاب برسالة إليه: أن اقدم إلينا، ولك ما لنا من الحقوق، وعليك ما علينا من الواجبات، فجاء جبلة إلى الحجاز ومعه خمسُمائة فارسٍ تبدو عليهم آثار الأبَّهة والترف بلباسهم المنسوج بالذهب والفضة.
حضر جبلة موسم الحج، فداس رجلٌ من فزارة على إزارِ جبلة، فغضب جبلة ولطم الفزاريَّ لطمة قوية هشمت أنفه، فذهب الفزاري إلى عمر يشتكي إليه؛ ليأخذ حقَّه من ملك الغساسنة الذي أسلم حديثًا، فبعث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى جبلة ملك غسان برسالة يقول له فيها: ما الذي دعاك إلى أن تلطم أخاك هذه اللطمة المؤلمة؟! فلما قرأ جبلة الرسالة وسمع هذا السؤال من خليفة المسلمين، عجب من مضمونها، وأخذتْه العزَّة بالإثم، وشعر بأنه قد أُهِينت كرامته حين علم بأنه - وهو المَلِك - يُحاسَب؛ لأنه لطم أعرابيًّا من البادية، ثم قال: لولا حرمة هذا البيت لقتلتُ من داس إزاري، فقال له عمر في رسالة بعثها إليه: إما أن تُرضِيَه وإلا اقتصصتُ له منك، عاقبتك بمثل ما عاقبته، فدُهش جبلة، وردَّ بقوله مستفهمًا مستنكرًا: أتقتصُّ له منِّي وأنا ملك وهو من سوقة الناس؟! فقال له عمر: إن الإسلام ساوى بينكما، قال جبلة المَلِك: إني رجوتُ أن أكون بعد إسلامي أعزَّ مما كنتُ عليه قبل إسلامي، فكرَّر عمر قوله: الإسلام ساوى بينكما، فقال جبلة: إذًا أتنصَّر وأترك الإسلام وأعود نصرانيًّا، فقال عمر: إذًا أضرِبُ عنقَك، وتناحر قوم جبلة وقوم فزارة، وأوشكت أن تشتعل بينهم فتنة، فطلب جبلة من عمر أن يمهله إلى غدٍ، فوافق عمر وأجَّل القضية إلى غد، فخرج جبلة من المدينة هاربًا متخفِّيًا ومتسترًا بظلام الليل، ثم التحق بقيصر ملك الروم، فأكرمه هرقل وأغدق عليه الأموال![انظر البداية والنهاية(8/ 63-64)]
فهذا لون من العدالة الإِنسانية لا يعرفه الناس في غير الإِسلام، لأنه قائم على احترام الإِنسان -أي إنسان - بِغَضِّ النظر عن جنسه ولونه بل وعقيدته أيضًا، وهذا السمو الذي تحلى به الإِسلام يزداد ظهورًا إذا قورن بما يجري بين الأمم اليوم من المعاملات التي تنافي الكرامة الإِنسانية بعد أن طغت الجاهلية، وأصبح الإِنسان كله لا يساوي شيئًا في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية، ولا يقوم له وزن إلَّا برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية!! وغيرهما من الدول التي لم تهتد بهدي الإِسلام وتعاني ولا تزال تعاني من مشكلة الطبقات ومعضلة المليونين!! ولكن الإِسلام جاء بالمساواة الصحيحة المستقيمة التي روحها العدل والرحمة والتكافل في الحقوق:
فقد ساوى بين طبقات الخلق في العدل في كل شيء {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وساوى بين طبقات العباد في الحقوق والواجبات تبعاً لقدرتهم واستطاعتهم. قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
وقال -تعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}.
وقال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
وقال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}.
وساوى بينهم في وجوب إيتاء الحق الذي عليهم وفي إيصال الحق إليهم. قال -تعالى-: {... وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) ...}.
- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له مظلمةٌ لأحد من عِرْضِه أو شيء فلْيتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرح عليه".[البخاري(2449)]
كما ساوى الإِسلام بين المسلمين في إيجاب العبادات وتحريم المحرمات ساوى بينهم في الفضل والثواب بحسب أعمالهم {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}.
وكما ساوى بينهم في العبادات: ساوى بينهم في المعاملات العوضية والتبرعات، والإحسان، وجعل الرضا شرطاً لصحة العقود ونفاذها، وأن من أكره على شيء منها لا ينفذ له معاملة، ولا يستقيم له تبرع.
والخلاصة أن: الإِسلام ساوى بين الناس في كل حق ديني أو فى نيوي ولم يجعل لأحد على أحد ميزة في شيء؛ إلَّا بما قدم وبهذا يعرف كمال حكمة الله وشمول رحمته وحسن أحكامه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. [وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل عصر(166-170)].

فائـــــدة: العدل يريح القلب ويجلب الأمن للراعي والرعية.
ذكر الإمام الذهبي في ترجمة: جَهْوَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ جَهْوَرٍ أَبُو الحَزْمِ القُرْطُبِيُّ فقال:
الرَّئِيْس أَبُو الْحزم القُرْطُبِيُّ، الوَزِيْرُ، مِنْ بَيْتِ رِئاسَةٍ وَوزَارَةٍ، مِنْ دُهَاة الرِّجَالِ وَعُقَلاَئِهِم، دَبَّرَ أَمْرَ قُرْطُبَة، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ مِنْ عقله لَمْ يتسمَّ بِالإِمرَة، وَرَتَّبَ البَوَّابِيْن وَالحَشَمَ عَلَى بَابِ القَصْر، وَلَمْ يَنْتَقِل مِنْ بَيْتِهِ، وَأَنْفَقَ فِي الجُنْدِ الأَمْوَالَ، وَأَقَامَ العُمَال، وَفَرَّقَ العُدَدَ عَلَى العَامَة.
وَكَانَ عَلَى طَرِيْقَةِ الرُّؤَسَاء الصَّالِحِيْنَ، فَاسْتمرَّ أَمْرُ النَّاسِ مَعَهُ مُسْتَقِيْماً إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَة خَمْسٍ وَثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
فقَام بَعْدَهُ ابْنُهُ الرَّئِيْس أَبُو الوَلِيْدِ مُحَمَّدُ بنُ جَهْور، فَجَرَى فِي السّيَاسَةِ عَلَى مِنْهَاجِ أَبِيهِ سَوَاء، وَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّة سِنِيْنَ.
وَكَانَ وَالِدُهُ أَبُو الْحزم مِنْ كِبَارِ العُلَمَاء، رَوَى عَنْ: أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ مُفَرِّجٍ، وَخَلَف بن القَاسِمِ، وَعَبَّاس بن أَصْبَغَ، وَجَمَاعَةٍ.
رَوَى عَنْهُ: مُحَمَّدُ بنُ عتَّاب، وَغَيْرهُ.
وَكَانَ مِنْ صِغَارِ وُزَرَاء دَوْلَةِ ابْنِ أَبِي عَامِر.
وَكَانَ يَقُوْلُ: أَنَا مُمْسِكٌ أَمْرَ النَّاسِ إِلَى أَنْ يتَهَيَّأَ لَهُم مَنْ يَصْلُح لِلْخِلاَفَةِ.
فَاسْتقلَّ بِالسَّلْطَنَة، وَاسْترَاحَ مِنِ اسْمِهَا، وَكَانَ يَجْعَلُ ارتفَاع الأَمْوَالِ وَدَائِعَ عِنْد التُّجَّار وَمُضَاربَة.
وَكَانَ يَعُودُ المَرْضَى، وَيَشْهَدُ الجَنَائِز وَهُوَ بِزِيِّ الصَّالِحِيْنَ، وَلَهُ هَيْبَةٌ عَظِيْمَةٌ، وَأَمْرٌ مُطَاع، عَاشَ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ سَنَةً.
وَأَمَّا ابْنُهُ: أَبُو الوَلِيْدِ بنُ جَهْوَرِ بنِ مُحَمَّدٍ القُرْطُبِيُّ
فَحكم عَلَى قُرْطُبَة ثَمَانِيَةَ أَعْوَام، فَقصدهُ ابْنُ عَبَّاد، وَقهره، وَأَخَذَ البَلَدَ، ثُمَّ سَجَنَ أَبَا الوَلِيْدِ فِي حصن.
وَكَانَ قَدْ قرأَ عَلَى مَكِّيّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي المُطَرِّف القَنَازِعِيّ، وَيُوْنُسَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث، وَطَائِفَةٍ، وَعُنِي بِالحَدِيْثِ.
فَبَقِيَ فِي سِجنِ ابْنِ عَبَّاد إِلَى أَنْ مَاتَ فِي نِصْفِ شَوَّال، سَنَة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَقِيْلَ: بَلْ غَلَبَ عَلَى قُرْطُبَة المَأْمُوْنُ بنُ ذِي النُّوْنِ صَاحِبُ طُلَيْطُلَة، وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُ عكَاشة البَرْبَرِيّ، ثُمَّ غلب عَلَيْهَا أَبُو القَاسِمِ بنُ عَبَّادٍ، وَصَارت تبعاً لإِشْبِيْليَة. [سير أعلام النبلاء(17/139)]

نسأل من الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين
كتبه أخوكم ومحبكم أبو محمد/ طاهر بن محمد السماوي وفقه الله تعالى.
1/ شعبان 1440هـ

تلحين العبادات القولية

  📮التلحين في العبادات القولية. بالنسبه للتلحين في العبادات القولية لا يوجد عبادة من العبادات يشرع فيها التلحين والذي هو مشروع تحسين الصوت ...